فصل: سورة مريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (84- 86):

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)}
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض} جعلنا له فيها مكانة واعتلاء {وَءَاتَيِنَاه مِن كُلّ شَئ} أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه {سَبَباً} طريقاً موصلاً إليه {فَأَتْبَعَ سَبَباً} والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً. يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق فأتبع سبباً، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً. {فأتبع سبباً} {ثم أتبع} كوفي وشامي الباقون: بوصل الألف وتشديد التاء. عن الأصمعي: أتبع لحق واتبع اقتفى وإن لم يلحق {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي منتهى العمارة نحو المغرب وكذا المطلع قال صلى الله عليه وسلم: «بدء أمره أنه وجد في الكتب أن أحد أولاد سام يشرب من عين الحياة فيخلد فجعل يسير في طلبها والخضر وزيره وابن خالته فظفر فشرب ولم يظفر ذو القرنين» {وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ذات حمأة من حمئت البئر إذا صارت فيها الحمأة. {حامية} شامي وكوفي غير حفص بمعنى حارة. عن أبي ذر: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: «أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه؟» قلت الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تغرب في عين حامية.» وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند معاوية فقرأ معاوية {حامية} فقال: ابن عباس: حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمرو: كيف تقرؤها؟ فقال: كما يقرأ أمير المؤمنين. ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما، ولا تنافي فجاز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً {وَوَجَدَ عِندَهَا} عند تلك العين {قَوْماً} عراة من الثياب لباسهم جلود الصيد وطعامهم ما لفظ البحر وكانوا كفاراً {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} إن كان نبياً فقد أوحى الله إليه بهذا وإلا فقد أوحي إلى نبي فأمره النبي به، أو كان إلهاماً خير بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم وبين أن يتخذ فيهم حسناً بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا، أو التعذيب القتل وإتخاذ الحسن الأسر لأنه بالنظر إلى القتل إحسان.

.تفسير الآيات (87- 90):

{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)}
{قَالَ} ذو القرنين {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} بالقتل {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} في القيامة يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك فذاك هو المعذب في الدارين.
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي عمل ما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ جَزَاء الحسنى} فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة. {جزاءً الحسنى} كوفي غير أبي بكر أي فله الفعلة الحسنى جزاء {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي ذا يسر أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ} هم الزنج {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا} من دون الشمس {سِتْراً} أي أبنية عن كعب أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم، أو الستر اللباس. عن مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض.

.تفسير الآيات (91- 94):

{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)}
{كذلك} أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} من الجنود والآلات وأسباب الملك {خُبْراً} نصب على المصدر لأن في {أحطنا} معنى خبرنا، أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك أي كما بلغ مغربها، أو تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بين الجبلين وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما. {السَّدين} و{سًداً} مكي وأبو عمرو وحفص {السُّدين} و{سدا} حمزة وعلي، وبضمهما: غيرهم. قيل: ما كان مسدوداً خلقة فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح. وانتصب {بين} على أنه مفعول به ل {بلغ} كما انجر بالإضافة في {هذا فراق بيني وبينك} وكما ارتفع في {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} من ورائهما {قَوْماً} هم الترك {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها. {يُفقهون} حمزة وعلي أن لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة.
{قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، وهمزهما عاصم فقط. وهما من ولد يافث أو يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم {مُفْسِدُونَ في الأرض} قيل كانوا يأكلون الناس. وقيل: كانوا يخرجوا أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه، ولا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح. وقيل: هم على صنفين طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} {خراجا} حمزة وعلي أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال {على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا}.

.تفسير الآيات (95- 96):

{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)}
{قال ما مكَّني} بالإدغام وبفكه مكي {فِيهِ رَبّى خَيْرٌ} أي ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون لي من الخرج فلا حاجة لي إليه {فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ} بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبالآلات {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} جداراً وحاجزاً حصيناً موثقاً والردم أكبر من السد {ءَاتُونِي زُبَرَ الحديد} قطع الحديد والزبرة القطعة الكبيرة. قيل: حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى، فاختلط والتصق بعضه وصار جلداً وصلدا، وقيل: بعدما بين السدين فإنه فرسخ {حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين} بفتحتين جانبي الجبلين لأنها يتصادفان أي يتقابلان. {الصُّدَفين} مكى وبصرى وشامي. {الصُّدْفين} أبو بكر {قَالَ انفخوا} أي قال ذو القرنين للعملة: انفخوا في الحديد {حتى إِذَا جَعَلَهُ} أي المنفوخ فيه وهو الحديد {نَارًا} كالنار {قَالَ آتُونِى} أعطوني {أَفْرِغْ} أصب {عَلَيْهِ قِطْراً} نحاساً مذاباً لأنه يقطر وهو منصوب ب {أفرغ} وتقديره آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه {قال ائتوني} بوصل الألف: حمزة وإذا ابتدأ كسر الألف أي جيئوني.

.تفسير الآيات (97- 101):

{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)}
{فَمَا اسطاعوا} بحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء {أَن يَظْهَرُوهُ} أن يعلوا السد {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا} أي لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ولا نقب لصلابته {قَالَ هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى} أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته {فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى} فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي {جَعَلَهُ} أي السد {دَكَّاء} أي مدكوكا مبسوطاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك. {دكاء} كوفي أي أرضاً مستوية {وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً} آخر قول ذي القرنين {وَتَرَكْنَا} وجعلنا {بَعْضُهُمْ} بعض الخلق {يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ} يختلط {فِى بَعْضِ} أي يطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. ورُوي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة بيت المقدس، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون {وَنُفِخَ في الصور} لقيام الساعة {فجمعناهم} أي جمع الخلائق للثواب والعقاب {جَمْعاً} تأكيد {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً} وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاء عَن ذِكْرِي} عن آياتي التي ينظر إليها أو عن القرآن فأذكره بالتعظيم أو عن القرآن وتأمل معانيه {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي وكانوا صما عنه إلا أنه أبلغ إذ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع.

.تفسير الآيات (102- 108):

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}
{أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء} أي أفظن الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم بئس ما ظنوا. وقيل: {أن} بصلتها سد مسد مفعولي {أفحسب} و{عبادي أولياء} مفعولاً {أن يتخذوا} وهذا أوجه يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً} هو ما يقام للنزيل وهو الضيف ونحوه فبشرهم بعذاب أليم {قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا} {أعمالاً} تمييز. وإنما جمع والقياس أن يكون مفرداً لتنوع الأهواء وهم أهل الكتاب أو الرهبان {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} ضاع وبطل وهو في محل الرفع أي هم الذين {فِى الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} فلا يكون لهم عندنا وزن ومقدار {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} هي عطف بيان لجزاؤهم {بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُواً} أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسوله.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً خالدين فِيهَا} حال {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} تحولاً إلى غيرها رضا بما أعطوا. يقال: حال من مكانه حولاً أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح مائل الطرف إلى أرفع منه، أو المراد نفي التحول وتأكيد الخلود.

.تفسير الآيات (109- 110):

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
{قُل لَّوْ كَانَ البحر} أي ماء البحر {مِدَاداً لكلمات رَبّى} قال أبو عبيدة: المداد: ما يكتب به أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} بمثل البحر {مَدَداً} لنفد أيضاً والكلمات غير نافدة. و{مدداً} تمييز نحو: (لي مثله رجلاً) والمدد مثل المداد وهو ما يمد به. {ينفد} حمزة وعلي، وقيل: قال حيي بن أخطب: في كتابكم {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 269] ثم تقرؤون {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] فنزلت يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضاً وقبول، أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه والمراد باللقاء القدوم عليه. وقيل: رؤيته كما هو حقيقة اللفظ والرجاء على هذا مجرى على حقيقته {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا} خالصاً لا يريد به إلا وجه ربه ولا يخلط به غيره. وعن يحيى بن معاذ: هو ما لا يستحي منه {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} هو نهي عن الشرك أو عن الرياء قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر قال: «الرياء» قال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة تكون فإن يخرج الدجال في تلك الثمانية عصمه الله من فتنة الدجال، ومن قرأ {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ} إلى آخرها عند مضجعه كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه، وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ».

.سورة مريم:

.تفسير الآيات (1- 4):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}
{كهيعص} قال السدي: هو اسم الله الأعظم، وقيل: هو اسم للسورة. قرأ علي ويحيى بكسر الهاء والياء، ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، وحمزة بعكسه، وغيرهم بفتحهما {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} خبر مبتدأ أي هذا ذكر {عَبْدَهِ} مفعول الرحمة {زَكَرِيَّا} بالقصر: حمزة وعلي وحفص وهو بدل من {عبده} {إِذْ} ظرف للرحمة {نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} دعاه دعاء سرا كما هو المأمور به وهو أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في أوان الكبر لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة {قَالَ رَبّ} هذا تفسير الدعاء وأصله (يا ربي) فحذف حرف النداء والمضاف إليه اختصاراً {إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} ضعف. وخص العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية والمراد أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن،
{واشتعل الرأس شَيْباً} تمييز أي فشا في رأسي الشيب واشتعلت النار إذا تفرقت في التهابها وصارت شعلاً، فشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار. ولا ترى كلاماً أفصح من هذا، ألا ترى أن أصل الكلام يا رب قد شخت إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن وشيب الرأس المتعرض لهما، وأقوى منه ضعف بدني وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل، وأقوى منه وهنت عظام بدني، ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية فهي أبلغ منه، وأقوى منه أنا وهنت عظام بدني، وأقوى منه إني وهنت عظام بدني، وأقوى منه إني وهنت العظام من بدني ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، وأقوى منه إني وهنت العظام مني ففيه ترك توسيط البدن، وأقوى منه {إني وهن العظم مني} لشمول الوهن العظام فرداً فرداً باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحه حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ وهي الاستعارة فحصل اشتعل شيب رأسي، وأبلغ منه اشتعل رأسي شيباً لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيباً، وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي ناراً والفرق نير، ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز، وأبلغ منه واشتعل الرأس مني شيباً لما مر، وأبلغ منه {واشتعل الرأس شيباً} ففيه اكتفاء بعلم المخاطب إنه رأس زكريا بقرينة العطف على {وهن العظم} {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} مصدر مضاف إلى المفعول أي بدعائي إياك {رَبّ شَقِيّاً} أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم سعيداً به غير شقي فيه. يقال: سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي إذا خاب ولم ينلها. وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا فقال: مرحباً بمن توسل بنا إلينا وقت حاجته وقضى حاجته.